فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكان كل منهم قد أتى على بعير، عليه بضائع يدفعونها كأثمان لِمَا يأخذونه، وحين يحضرون ومعهم أخوهم سيأخذون كَيْل بعير فَوق ما أخذوه هذه المرَّة.
وهم قد قالوا لأبيهم هذا القول، حينما سألوه عن إرسال أخيهم معهم لمصاحبتهم في الرحلة حسب طلب يوسف عليه السلام؛ لذلك تقول الآية: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65].
وقوله: {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} [يوسف: 59].
يعني: أنه يرحب بالضيوف؛ وقد لمسوا ذلك بحُسْن المكان الذي نزلوا فيه. بما فيه من راحة وطيب الاستقبال، ووجود كل ما يحتاجه الضيف في إقامته.
وكلمة مُنْزِل في ظاهر الأمر أنها ضدّ مُعْلِي، وحقيقة المعنى هو: مُنزِل مِنَ الذي ينزل بالمكان الموجود به كل مطلوبات حياته.
والحق سبحانه يقول عن الجنة: {نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 32].
أي: أنه سبحانه قد أعدَّ الجنة بما يفوق خيال البشر؛ وبمُطْلق صفات المغفرة والرحمة، وإذا كان المَوْلى عَزَّ وجَلَّ هو الذي يعدّ؛ فلابد أن يكون ما أعدَّه فوق خيال البشر.
وقلت لإخواني الذين بُهروا بفندق رَاقٍ في سان فرانسيسكو: إن الإنسان حين يرى أمرًا طيبًا، أو شيئًا رَاقِيًا، أو جميلًا عند إنسان آخر سيستقبلها بواحد من استقبالين: تظهر نَفسه فيه؛ فإن كان حَقُودًا فسينظر للأشياء بكراهية وبحقد، وإنْ كان مؤمنا يفرح ويقول:
هذه النعمة التي أراها تزيد من عِشْقي في الجنة؛ لأن تلك النعمة التي أراها قد صنعها بشر لبشر؛ فماذا عن صُنْع الله للجنة؟ وهو مَنْ خلق الكون كله بما فيه من بشر؟
ودائمًا أقول: ما رأيتُ نعيمًا عند أحد إلا ازداد إيماني، بأن الذي أراه من نعمة قد أعدَّه البشر للبشر؛ فما بالنا بما أعدَّه خالق البشر للمؤمنين من البشر؟
أما مَنْ ينظر نظرةَ حِقْد إلى النعمة عند الغير؛ فهو يحرم نفسه من صَبابة النعمة عند الغير؛ لأن النعمة لها صَبابة عند صاحبها، وتتعلق به، وإن فرحتَ بالنعمة عند إنسان؛ فثِقْ أن النعمة ستطرق بابك، وإن كرهتها عند غيرك؛ كرهتْ النعمة أن تأتي إليك.
فإنْ أردتَ الخير الذي عند غيرك؛ عليك أن تحب النعمة التي عند هذا الغير؛ لتسعى النعمة إليك؛ دون أن تتكلف عبء إدارة هذه النعمة أو صيانتها؛ لأنها ستأتي إليك بقدرة الحق سبحانه.
وقَوْل يوسف عليه السلام في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} [يوسف: 59].
هو إخبار منه يؤكد ما استقبلهم به من عدل، وتوفية للكيل، وحُسْن الضيافة، ولا شك أنهم حين يُحضِرون أخاهم سيجدون نفس الاستقبال.
ويواصل الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي...}.
ويوسف يعلم مُقدَّمًا صعوبة أن يأمنهم أبوهم على أخيهم؛ لذلك وجَّه إليهم هذا الإنذار: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي..} [يوسف: 60].
قال لهم ذلك، وهو يعلم أن المَعَاد مَعَادُ قَحْط وجَدْب ومجاعة.
وأضاف يوسف: {وَلاَ تَقْرَبُونِ} [يوسف: 60].
أي: لا تأتوا ناحية هذا البلد الذي أحكمه؛ ولذلك سنجدهم يقولون لأبيهم من بعد ذلك: {اأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 63].
وتلقَّوْا الإنذار من يوسف، وقالوا ما أورده القرآن هنا: {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ....}.
وقولهم: {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ...} [يوسف: 61].
يعني: أن الأمر ليس سهلًا؛ وهم يعرفون ماذا فعلوا من قبل مع يوسف، والمُرَاودة تعني أخْذ وردّ، وتحتاج إلى احتيال؛ وسبق المعنى في قول الحق سبحانه: {وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ...} [يوسف: 23].
وأكدوا قولهم: {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف: 61].
أي: أنهم سيبذلون كُلَّ جهودهم؛ كي يقبل والدهم إرسالَ أخيهم معهم، وهم يعلمون أن هذا مطلبٌ صَعْب المَنال، عسير التحقيق. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ}
قوله تعالى: {بِجَهَازِهِمْ}: العامَّةُ على فتح الجيم، وقرئ بكسرِها، وهما لغتان فيما يحتاجه الإِنسانُ مِنْ زاد ومتاعٍ ومنه جهاز العروس وجهاز البيت.
وقوله: {بِأَخٍ لَّكُمْ} ولم يَقُلْ بأخيكم بالإِضافة؛ مبالغةً في عَدَم تَعَرُّفِه بهم؛ ولذلك فَرَّقوا بين مررت بغلامك وبغلامٍ لك فإنَّ الأولَ يَقْتضي عِرْفانك بالغلام، وأن بينك وبين مخاطِبك نوعَ عَهْدٍ، والثاني لا يَقْتَضي ذلك، وقد تُخْبر عن المعرفة إخبارَ النكرة فتقول: قال رجل كذا وأنت تعرفه لصِدْق إطلاقِ النكرةِ على المعرفة.
{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)}
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُونِ}: يُحْتمل أنْ تكونَ لا ناهيةً فيكونَ {تَقْربون} مجزومًا، ويُحْتمل أن تكونَ لا نافيةً وفيه وجهان، أحدهما: أن يكونَ داخلًا في حَيِّز الجزاء معطوفًا عليه، فيكونَ أيضًا مجزومًا على ما تقدم. والثاني: أنه نفيٌّ مستقلٌّ غيرُ معطوف على جزاءِ الشرط، وهو خبر في معنى النهي كقوله: {فَلاَ رَفَثَ} [البقرة: 197]. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)}
عَرَفَ يوسفُ عليه السلام إخوتَه وأنكروه، لأنهم اعتقدوا أنّه في رِقِّ العبودية لمّا باعوه، بينما يوسف- في ذلك الوقت- كان قاعدًا بمكانِ المَلِكِ. فَمَنْ طلب الملِكَ في صفة العبيد متى يعرفه؟
وكذلك مًنْ يعتقد في صفات المعبودِ ما هو مِنْ صفات الخَلْق... متى يكون عارفًا؟ هيهات هيهات لما يحسبون!
ويقال لمَّا أَخْفَوْه صار خفاؤه حجَابًا بينهم وبين معرفتهم إياه، كذلك العاصي.. بخطاياه وزلاتِه تقع غَبَرَةٌ على وجه معرفته.
{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)}
المحِبُّ غيورٌ؛ فلمَّا كان يعقوبُ عليه السلام قد تَسَلَّى عن يوسف برؤية ابنه بنيامين غار يوسف أن ينظر إليه يعقوب.
ويقال تَلَطَّفَ يوسف في استحضار بنيامين بالترغيب والترهيب، وأما الترغيب ففي مالِه الذي أوصله إليهم وهو يقول: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّىِ أُوفِى الْكَيْلَ} وفي إقباله عليهم وفي إكرامه لهم وهو يقول: {وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}.
وأمّا الترهيب فبمنع المال.
{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)} أي فإن لم تؤامِنوني عليه فلا كيل لكم عندي، وأمنع الإكرام والإقبال عنكم.
{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)}
لما عَلِمَ يوسفُ من حالهم أنهم باعوه بثمنٍ بَخْسٍ عَلِمَ أنهم يأتونه بأخيهم طمعًا في إيفاء الكيل، فلن يَصْعُبَ عليهم الإتيان به. اهـ.

.تفسير الآيات (62- 64):

قوله تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أعلمنا سبحانه أنه رغبهم في شأن أخيه، ورهبهم بالقول، أعلمنا بأنه رغبهم فيه بالفعل، فقال عاطفًا على قوله الماضي لهم: {وقال} أي يوسف عليه الصلاة والسلام شفقة على إخوته وإرادة لنصحهم فيما سألهم فيه: {لفتيانه} أي غلمانه، وأصل الفتى: الشاب القوي، وسيأتي شرحه عند قوله تعالى: {تفتؤا تذكر يوسف}، {اجعلوا بضاعتهم} أي ما بضعوه أي قطعوه من مالهم للتجارة وأخذناه منهم ثمنًا لطعامهم الذي دفعناه لهم: {في رحالهم} أي عدولهم؛ والرحل: ما أعد للرحيل من وعاء أو مركب: {لعلهم يعرفونها} أي بضاعتهم؛ وعبر بأداة التحقق تفاؤلًا لهم بالسلامة، أو ظنًا، أو علمًا بالوحي، فقال: {إذا انقلبوا} راجعين: {إلى أهلهم} أي يعرفون أنها هي بعينها، رددتها عليهم إحسانًا إليهم، ويجزمون بذلك، ولا يظنون أن الله أخلف عليهم مثلها نظرًا إلى حالهم وكرامة لأبيهم، ويعرفون هذه النعمة لي: {ولعلهم يرجعون} أي ليكون حالهم وحال من يرجع إلينا إذا عرفوها، لردها تورعًا، أو للميرة بها إن لم يكن عندهم غيرها، أو طمعًا في مثل هذا، وإنما لم يبادر إلى تعريفهم بنفسه والتعجيل بإدخال السرور على أبيه، لأن ذلك غير ممكن عادة- لما يأتي من الحكم البالغة والتدبير المتين، ودل على إسراعهم في الرجوع بالفاء فقال: {فلما رجعوا} أي إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام: {إلى أبيهم} حملهم ما رأوا- من إحسان الصديق وحاجتهم إليه وتبرئتهم لأنفسهم عن أن يكونوا جواسيس- على أن: {قالوا يا أبانا}.
ولما كان المضار لهم مطلق المنع، بنوا للمفعول قولهم: {منع منا الكيل} لأخينا بنيامين على بعيره لغيبته، ولنا كلنا بعد هذه المرة إن لم نذهب به معنا ليظهر صدقنا؛ والمنع: إيجاد ما يتعذر به على القادر الفعل.
وضده: التسليط، وأما العجز فضده القدرة: {فأرسل} أي بسبب إزالة هذا المنع: {معنا أخانا} إنك إن ترسله معنا: {نكتل} أي لنفسه كما يكتال كل واحد منا لنفسه- هذا على قراءة حمزة والكسائي بالتحانية، ولنؤوله على قراءة الجماعة بالنون- من الميرة ما وظفه العزيز، وهو لكل واحد حمل، وأكدوا لما تقدم من فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام مما يوجب الارتياب بهم، فقالوا: {وإنا له} أي خاصة: {لحافظون} أي عن أن يناله مكروه حتى نرده إليك، عريقون في هذا الوصف، فكأنه قيل: ما فعل في هذا بعد ما فعلوا إذ أرسل معهم يوسف عليه الصلاة والسلام؟ قيل: عزم على إرساله معهم، ولكنه أظهر اللجاء إلى الله تعالى في أمره غير قانع بوعدهم المؤكد في حفظه، لما سبق منهم من مثله في يوسف عليه الصلاة والسلام بأن: {قال هل آمنكم} أي أقبل منكم الآن وفي مستقبل الزمان تأمينكم لي فيه مما يسوءني تأمينًا مستعليًا: {عليه} أي بنيامين: {إلا كما آمنتكم} أي في الماضي: {على أخيه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام.
ولما كان لم يطلع يوسف عليه الصلاة والسلام على خيانة قبل ما فعلوا به، وكان ائتمانه لهم عليه إنما هو زمان يسير، أثبت الجار فقال: {من قبل} فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردوه إليّ- والأمن: اطمئنان القلب إلى سلامة النفس- فأنا في هذا لا آمن عليه إلا الله: {فالله} أي المحيط علمًا وقدرة: {خير حافظًا} منكم ومن كل أحد: {وهو} أي باطنًا وظاهرًا: {أرحم الراحمين} فهو أرحم بي من أن يفجعني به بعد مصيبتي بأخيه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
في الآية مسائل:
المسائل الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لفتيانه بالألف والنون والباقون: {لفتيته} بالتاء من غير ألف، وهما لغتان كالصبيان والصبية، والإخوان والإخوة قال أبو علي الفارسي الفتية جمع فتى في العدد القليل والفتيان للكثير، فوجه البناء الذي للعدد القليل أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكونون قليلين لأن هذا من باب الأسرار فوجب صونه إلا عن العدد القليل ووجه الجمع الكثير أنه قال: {لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بضاعتهم في رِحَالِهِمْ} والرحال تفيد العدد الكثير فوجب أن يكون الذين يباشرون ذلك العمل كثيرين.
المسألة الثانية:
اتفق الأكثرون على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم ومنهم من قال إنهم كانوا عارفين به، وهو ضعيف لأن قوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} يبطل ذلك ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجوه: الأول: أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه، علموا أن ذلك كان كرمًا من يوسف وسخاء محضًا فيبعثهم ذلك على العود إليه والحرص على معاملته.
الثاني: خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى الثالث: أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان القحط.
الرابع: رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع شدة حاجتهم إلى الطعام لؤم.
الخامس: قال الفراء: إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد الأنبياء فرجعوا ليعرفوا السبب فيه، أو رجعوا ليردوا المال إلى مالكه.
السادس: أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب ولا منة.
السابع: مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا لطلب زيادة في الثمن.
الثامن: أراد أن يعرف أبوه أنه أكرمهم وطلبه له لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه.
التاسع: أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدة الزمان، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق، فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم.
العاشر: أراد أن يقابل مبالغتهم في الإساءة بمبالغته في الإحسان إليهم.
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما رجعوا إلى أبيهم قالوا: {قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل} وفيه قولان: الأول: أنهم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عنده منعوا منه، فقولهم: {منع منا الكيل} إشارة إليه.
والثاني: أنه منع الكيل في المستقبل وهو إشارة إلى قول يوسف: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} [يوسف: 60] والدليل على أن المراد ذلك قولهم: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} قرأ حمزة والكسائي: {يكتل} بالياء، والباقون بالنون، والقراءة الأولى تقوى القول الأول، والقراءة الثانية تقوي القول الثاني.
ثم قالوا: {وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لحافظون} ضمنوا كونهم حافظين له، فلما قالوا ذلك قال يعقوب عليه السلام: {هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} والمعنى أنكم ذكرتم قبل هذا الكلام في يوسف وضمنتم لي حفظه حيث قلتم: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [يوسف: 12] ثم هاهنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه فهل يكون هاهنا أماني إلا ما كان هناك يعني لما لم يحصل الأمان هناك فكذلك لا يحصل ههنا.
ثم قال: {فالله خَيْرٌ حافظا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} قرأ حمزة والكسائي: {حافظا} بالألف على التمييز والتفسير على تقدير هو خير لكم حافظًا كقولهم: هو خيرهم رجلًا ولله دره فارسًا، وقيل: على الحال والباقون: {حافظا} بغير ألف على المصدر يعني خيركم حفظًا يعني حفظ الله لبنيامين خير من حفظكم، وقرأ الأعمش: {فالله خَيْرٌ حافظا} وقرأ أبو هريرة رضي الله عنه: {خَيْرٌ حافظا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} وقيل: معناه وثقت بكم في حفظ يوسف عليه السلام فكان ما كان فالآن أتوكل على الله في حفظ بنيامين.
فإن قيل: لم بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد.
قلنا: لوجوه: أحدها: أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح، وثانيها: أنه كان يشاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام، وثالثها: أن ضرورة القحط أحوجته إلى ذلك، ورابعها: لعله تعالى أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه.
فإن قيل: هل يدل قوله: {فالله خَيْرٌ حافظا} على أنه أذن في ذهاب ابنه بنيامين في ذلك الوقت.
قلنا: الأكثرون قالوا: يدل عليه.
وقال آخرون: لا يدل عليه، وفيه وجهان: الأول: التقدير أنه لو أذن في خروجه معهم لكان في حفظ الله لا في حفظهم.
الثاني: أنه لما ذكر يوسف قال: {فالله خَيْرٌ حافظا} أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي. اهـ.